الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
ثم القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله وبما وصفه به السابقون؛ الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث. ومذهب السلف: أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي؛ بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه؛ لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول وأفصح الخلق في بيان العلم وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد. وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة وله أفعال حقيقة: فكذلك له صفات حقيقة وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزه عنه حقيقة فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه واستلزام الحدوث سابقة العدم؛ ولافتقار المحدث إلى محدث ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى. ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله. فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العلىا ويحرفوا الكلم عن مواضعه ويلحدوا في أسماء الله وآياته. وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل: فهو جامع بين التعطيل والتمثيل. أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات؛ فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل مثلوا أولا وعطلوا آخرا وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى. فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا وكل ذلك من المحال ونحو ذلك من الكلام: فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم. إما استواء يليق بجلال الله تعالى ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يلزم من سائر الأجسام وصار هذا مثل قول المثل: إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهرا أو عرضا. وكلاهما محال؛ إذ لا يعقل موجود إلا هذان. وقوله: إذا كان مستويا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك؛ إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا فإن كليهما مثل وكليهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين. والقول الفاصل: هو ما عليه الأمة الوسط؛ من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه سميع بصير ونحو ذلك. ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم فكذلك هو سبحانه فوق العرش ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها. واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلا؛ لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير. ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة - من المتأولين لهذا الباب - في أمر مريج فإن من أنكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل ومن يحيل أن لله علما وقدرة وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل؛ بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة: يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش: يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل. ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء: إنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل بل منهم من يزعم أن العقل جوز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله. فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟ فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: (أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء). وكل من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر وهو من وجوه: - أحدها بيان أن العقل لا تحيل ذلك. و الثاني أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل. والثالث أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها بالاضطرار كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان. فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويل القرامطة والباطنية في الحج والصلاة والصوم وسائر ما جاءت به النبوات. الرابع: أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص؛ وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك التفصيل وإنما يعلمه مجملا إلى غير ذلك من الوجوه. على أن الوجوه الأساطين من هؤلاء الفحول: معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية. وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه ومن المعلوم للمؤمنين أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وأنه بين للناس ما أخبرهم به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر. والإيمان بالله واليوم الآخر: يتضمن الإيمان بالمبدأ والمعاد وهو الإيمان بالخلق والبعث كما جمع بينهما في قوله تعالى: والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن. فإذا جاز أن تتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى، والثاني مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه باطل، فالأول أولى بالبطلان. وأما الصنف الثالث ـ وهم [أهل التجهيل] ـ فهم كثير من المنتسبين إلى السنة، واتباع السلف، يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف معاني ما أنزل اللّه إليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك. وكذلك قولهم في أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا اللّه، مع أن الرسول تكلم بها ابتداءً، فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه. / هؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى: فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلًا على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد اللّه ـ تعالى ـ بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلًا يخالف مدلولها لا يعلمه إلا اللّه ولا يعلمه المتأولون. ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجري على ظاهرها، فظاهرها مراد مع قولهم: إن لها تأويلا بهذا المعنى لا يعلمه إلا اللّه، وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة: من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم. والمعنى الثاني: أن التأويل هو: تفسير الكلام ـ سواء وافق ظاهره أو لم يوافقه ـ وهذا هو التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين، وغيرهم. وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، وهو موافق لوقف من وقف من/ السلف على قوله: والمعنى الثالث: أن التأويل هو: الحقيقة التي يئول الكلام إليها ـ وإن وافقت ظاهره ـ فتأويل ما أخبر اللّه به في الجنة ـ من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك ـ هو الحقائق الموجودة أنفسها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان، ويعبر عنه باللسان، وهذا هو التأويل في لغة القرآن، كما قال تعالى عن يوسف أنه قال: وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا اللّه. وتأويل [الصفات] هو الحقيقة التي انفرد اللّه ـ تعالى ـ بعلمها، وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السلف ـ كمالك وغيره ـ: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، فالاستواء معلوم ـ يعلم معناه ويفسر ويترجم بلغة أخرى ـ وهو من/ التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا اللّه ـ تعالى. وقد روى عن ابن عباس ـ ما ذكره عبد الرزاق وغيره في تفسيرهم عنه ـ أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا اللّه ـ عز وجل ـ فمن ادعى علمه فهو كاذب. وهذا كما قال تعالى: وكذلك عِلْم وقت الساعة ونحو ذلك، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا اللّه ـ تعالى. وإن كنا نفهم معاني ما خوطبنا به، ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا إياه، كما قال تعالى: وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ـ عثمان بن عفان، وعبد اللّه بن مسعود، وغيرهما ـ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. / وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ من فاتحته إلى خاتمته، أقف عند كل آية وأسأله عنها. وقال الشعبي: ما ابتدع أحد بدعة إلا وفي كتاب اللّه بيانها. وقال مسروق: ماسئل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصر عنه. وهذا باب واسع قد بسط في موضعه. والمقصود هنا التنبيه على أُصول [المقالات الفاسدة] التي أوجبت الضلالة في باب العلم والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من جعل الرسول غير عالم بمعاني القرآن الذي أُنزل إليه، ولا جبريل، جعله غير عالم بالسمعيات، ولم يجعل القرآن هدى ولا بيانًا للناس. ثم هؤلا ء ينكرون العقليات في هذا الباب بالكلية، فلا يجعلون عند الرسول وأمته في [باب معرفة اللّه عز وجل] لا علومًا عقلية ولا سمعية، وهم قد شاركوا الملاحدة في هذه من وجوه متعددة، وهم مخطئون فيما نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى السلف، من الجهل، كما أخطأ في ذلك أهل التحريف، والتأويلات الفاسدة، وسائر أصناف الملاحدة. ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها وألفاظ من نقل مذهبهم ـ إلى غير ذلك من الوجوه بحسب ما يحتمله هذا الموضع ـ ما يعلم به مذهبهم. / روى أبو بكر البيهقي في [الأسماء والصفات] بإسناد صحيح، عن الأوزاعي قال: كنا ـ والتابعون متوافرون ـ نقول: إن اللّه ـ تعالى ذكره ـ فوق عرشه، ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته. وقد حكى الأوزاعي ـ وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابع التابعين، الذين هم [مالك] إمام أهل الحجاز، و [الأوزاعي] إمام أهل الشام، و [الليث] إمام أهل مصر و[الثوري] إمام أهل العراق ـ حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن اللّه ـ تعالى ـ فوق العرش، وبصفاته السمعية. وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جَهْم المنكر لكون اللّه فوق عرشه، والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف خلاف ذلك. وروى أبو بكر الخلال في [كتاب السنة] عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أَمِرُّوها كما جاءت. وروى ـ أيضًا ـ عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد والأوزاعي، عن الأخبار التي جاءت في الصفات. فقالوا: أمِرُّوها كما جاءت. وفي رواية: فقالوا: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف. فقولهم ـ رضي اللّه عنهم ـ: [أمِرُّوها كما جاءت] رد على المعطلة، وقولهم: [بلا كيف] رد على الممثلة. والزهري ومكحول، هما أعلم التابعين في زمانهم،/ والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقتهم حماد بن زيد، وحماد بن سلمة وأمثالهما. وروى أبوالقاسم الأزجي بإسناده عن مطرِّف بن عبد اللّه، قال: سمعت مالك بن أنس ـ إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات ـ يقول: قال عمر بن عبد العزيز: سَنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب اللّه، واستكمال لطاعة اللّه، وقوة على دين اللّه، ليس لأحد من خلق اللّه ـ تعالى ـ تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه اللّه ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا. وروى الخلال بإسناد ـ كلهم أئمة ثقات ـ عن سفيان بن عيينة، قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: وهذا الكلام مروي عـن مالك بـن أنـس تلميـذ ربيعة بـن أبـي عبد الرحمن من غير وجه. منها: ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني، وأبو بكر البيهقي، عن يحيى بن يحيى، قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاء رجل فقال: يا أبا عبد اللّه،/ فقول ربيعة ومالك: [الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب]، موافق لقول الباقين: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة. ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه ـ على ما يليق باللّه ـ لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء ـ حينئذ ـ لا يكون معلوما بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم. وأيضًا، فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضًا، فإن من ينفي الصفات الخبرية ـ أو الصفات مطلقًا ـ لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن اللّه ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا:بلا كيف. وأيضًا، فقولهم: [أمِرُّوها كما جاءت] يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معانٍ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن / يقال: أمِرُّوا لفظها، مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمِرُّوا لفظها مع اعتقاد أن اللّه لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ: بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول. وروى الأثرم في [السنة]، وأبو عبد اللّه بن بطة في [الإبانة]، وأبو عمرو الطلمنكي، وغيرهم بإسناد صحيح، عن عبد العزيز بن عبد اللّه بن أبي سلمة الماجشون ـ وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة، الذين هم مالك بن أنس، وابن الماجشون، وابن أبي ذئب ـ وقد سئل عما جحدت به الجهمية: [أما بعد، فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية ومن خلفها، في صفة الرب العظيم، الذي فاقت عظمته الوصف والتدبر، وكَلَّت الألسن عن تفسير صفته، وانحصرت العقول دون معرفة قدرته، وردت عظمته العقول، فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وهي حسيرة. وإنما أُمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال: [كيف] لمن لم يكن مرة ثم كان، فأما الذي لا يُحَول، ولايزول، ولم يَزَلْ، وليس له مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو. وكيف يعرف قدر من لم يبدأ، ومن لا يموت ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى، يعرفه عارف أو يحد قدره واصف؟ على أنه الحق المبين لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه. الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته، عجزها عن تحقيق /صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغرًا يجول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر؛ لما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك، وأخفي عليك مما ظهر من سمعه وبصره، فتبارك اللّه أحسن الخالقين، وخالقهم وسيد السادة، وربهم اعرف ـ رحمك اللّه ـ غناك عن تَكلُّف صفة، ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها؛ إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزدجر به عن شيء من معصيته؟ فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقًا وتكلفًا فقد وقال المسلمون: يارسول اللّه، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:(هل تُضَارُّون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟] قالوا: لا. قال: (فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟] قالوا: لا. قال: (فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك). وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول: قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض)، وقال لثابت بن قيس: (لقد ضحك اللّه مما فعلت بضيفك البارحة)، وقال فيما بلغنا: (إن اللّه ـ تعالى ـ ليضحك من أزلِكم [الأزْل: الشدة والضيق]. وقنوطكم وسرعة إجابتكم). فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: (نعم). قال: لا نعدم من رب يضحك خيرًا). إلى أشباه هذا مما لا نحصيه. وقال تعالى: فواللّه ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه، وما تحيط به قبضته: إلا صغر نظيرها منهم عندهم، إن ذلك الذي ألقى في روعهم، وخلق على معرفة قلوبهم،/ فما وصف اللّه من نفسه وسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ماسواه ـ لا هذا ولا هذا ـ لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. اعلم ـ رحمك اللّه ـ أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهي بك، ولا تجاوز ما قد حد لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله في الكتاب والسنة، وتوارثت علمه الأمة، فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيبًا، ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدرًا. وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك، ولا في حديث عن نبيك ـ من ذكر صفة ربك ـ فلا تكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه؛ فإن تكلفك معرفة مالم يصف من نفسه مثل إنكار ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها. فقد ـ واللّه ـ عَزّ المسلمون، الذين يعرفون المعروف وبهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر؛ يسمعون ما وصف اللّه به نفسه من هذا في كتابه، وما بلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن. / وما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه، فهو بمنزلة ما سمى وما وصف الرب ـ تعالى ـ من نفسه. والراسخون في العلم ـ الواقفون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم بما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها ـ لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدًا،ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقًا؛ لأن الحق ترك ما ترك، وتسمية ما سمى وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام، فتدبره، وانظر كيف أثبت الصفات ونفي علم الكيفية ـ موافقا لغيره من الأئمة ـ وكيف أنكر على من نفي الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا، كما تقوله الجهمية ـ: إنه يلزم أن يكون جسما أو عَرَضًا [العَرَض ـ في اصطلاح المتكلمين ـ: ما لا يقوم بنفسه، ولا يوجد إلا في مَحل يقوم به، وذلك نحو حُمْرَة الخجل وصُفْرَة الوَجَل]؛ فيكون محدثًا. وفي كتاب [الفقه الأكبر] المشهور عند أصحاب أبي حنيفة؛ الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد اللّه البلخي، قال: سألت أبا حنيفة عن الفقة الأكبر فقال: لا تكفرن أحدًا بذنب، ولا تنف أحدًا به من الإيمان، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا توالى أحدًا دون أحد، وأن ترد أمر عثمان وعليّ إلى الله عز وجل. /قال أبو حنيفة: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير. قال أبو مطيع ـ الحكم بن عبد اللّه ـ قلت: أخبرنى عن أفضل الفقه. قال: تعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود، واختلاف الأئمة. وذكر مسائل [الإيمان]، ثم ذكر مسائل [القدر]، والرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعه. ثم قال: قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيتبعه على ذلك أناس فيخرج على الجماعة، هل ترى ذلك؟ قال: لا. قلت: ولمَ، وقد أمر اللّه ورسوله بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو فريضة واجبة؟ قال: هو كذلك، لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء، واستحلال الحرام. قال: وذكر الكلام في قتل الخوارج والبغاة. إلى أن قال: قال أبوحنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء، أم في الأرض: فقد كفر؛ لأن اللّه يقول: قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري، العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين، وإنه يدعي من أعلى لا من أسفل ـ وفي لفظ ـ:سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض.قال: قد كفر. قال: لأن اللّه/ يقول: ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه: أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض! فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول: ليس في السماء، أو ليس في السماء ولا في الأرض؟ واحتج على كفره بقوله: وبين بهذا أن قوله تعالى: ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال: إنه على العرش استوى، ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض، قال: لأنه أنكر أنه في السماء؛ لأن اللّه في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون اللّه في السماء، واحتج على ذلك بأن اللّه في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية؛ فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن اللّه/ في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل،وقد جاء اللفظ الآخر صريحًا عنه بذلك. فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. وروي هذا اللفظ بإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في [كتاب الفاروق]، وروى ـ أيضًا ـ ابن أبي حاتم: أن هشام بن عبيد اللّه الرازي ـ صاحب محمد بن الحسن ـ قاضى الرَّي ـ حبس رجلا في التجهم فتاب؛ فجيء به إلى هشام ليطلقه، فقال: الحمد للّه على التوبة. فامتحنه هشام، فقال: أتشهد أن اللّه على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن اللّه على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه. فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب. وروى ـ أيضًا ـ عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن اللّه على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددًا، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل، وهالك مرتاب، يمزج اللّه بخلقه، ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان . وروى ـ أيضًا ـ عن ابن المدينى لما سئل: ما قول أهل الجماعة؟ قال: يؤمنون بالرؤية والكلام، وأن اللّه فوق السموات على العرش استوى، فسئل عن قوله: / وروى ـ أيضًا ـ عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه، وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان. وروي عن أبي زُرْعَة الرازي: أنه لما سئل عن تفسير قوله: وروي أبو القاسم اللالكائي الحافظ، الطبري، صاحب أبي حامد الإسفرائيني، في كتابه المشهور في [أصول السنة] بإسناده عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، قال: اتفق الفقهاء كلهم ـ من المشرق إلى المغرب ـ على الإيمان بالقرآن والأحاديث، التي جاء بها الثقات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صفة الرب ـ عز وجل ـ من غير تفسير، ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئًا منها فقد خرح مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يصفوا، ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا، فمن قال: بقول: [جَهْم] فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء. محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء، وقد حكى هذا الإجماع، وأخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالبًا، أو دائمًا. وقوله: [من غير تفسير]: أراد به تفسير الجهمية المعطلة، الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الإثبات. /وروي البيهقي وغيره بإسناد صحيح عن [أبي عبيد القاسم بن سلام] قال: هذه الأحاديث التي يقول فيها: (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره)، و(أن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك فيها قدمه)، و(الكرسي موضع القدمين)، وهذه الأحاديث في [الرؤية] هي عندنا حق، حملها الثقات بعضهم عن بعض، غير أنّا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها، وما أدركنا أحدًا يفسرها. أبو عبيد: أحد الأئمة الأربعة، الذين هم الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وله من المعرفة بالفقه، واللغة، والتأويل، ما هو أشهر من أن يوصف، وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء، و قد أخبر أنه ما أدرك أحدًا من العلماء يفسرها، أي تفسير الجهمية. وروى اللالكائي والبيهقي بإسنادهما عن عبد اللّه بن المبارك؛ أن رجلًا قال له: يا أبا عبد الرحمن، إني أكره الصفة ـ يعنى صفة الرب ـ فقال له عبد اللّه بن المبارك: وأنا أشد الناس كراهية لذلك، ولكن إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه، ونحو هذا. أراد ابن المبارك: أنا نكره أن نبتدئ بوصف اللّه من تلقاء أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار. وروى عبد اللّه بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له:/ بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه ههنا في الأرض ـ وهكذا قال الإمام أحمد وغيره. وروى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام، سمعت حماد بن زيد، وذكر هؤلاء الجهمية، فقال: إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء. وروى ابن أبي حاتم في كتاب [الرد على الجهمية] عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علمًا ودينًا، من شيوخ الإمام أحمد ـ إنه ذكر عنده الجهمية، فقال: أشر قولًا من اليهود والنصارى، وقد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن اللّه على العرش، وهم قالوا: ليس على شيء. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة، إمام الأئمة: من لم يقل: إن اللّه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة، لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة، ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح. وروى عبد اللّه بن الإمام أحمد بإسناده عن عباد بن العوام ـ الواسطي إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد ـ قال: كلمت بشرًا المريسي وأصحاب بشر، فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا: ليس في السماء شيء. وعن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور، أنه قال: ليس في أصحاب / الأهواء شر من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا: ليس في السماء شيء، أرى واللّه ألا يناكحوا، ولا يوارثوا. وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في [كتاب الرد على الجهمية] عن عبد الرحمن بن مهدي قال: أصحاب جهم يريدون أن يقولوا:إن اللّه لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء، وأن اللّه ليس على العرش، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا. وعن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فنزلت بالدباغين، فقال رجل عندها: اللّه على عرشه. فقالت: محدود على محدود، فقال الأصمعي: كفرت بهذه المقالة. وعن عاصم بن على بن عاصم ـ شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما ـ قال: ناظرت جهميًا، فتبين من كلامه ألا يؤمن أن في السماء ربًا . وروى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، قال: أخبرنا سُرَيْج بن النعمان قال: سمعت عبد اللّه بن نافع الصائغ قال: سمعت مالك بن أنس يقول: اللّه في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان. وقال الشافعي: خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه اللّه في السماء، وجمع عليه قلوب عباده. /وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني اللّه من فوق سبع سموات). وهذا مثل قول الشافعي. وقصة أبي يوسف ـ صاحب أبي حنيفة ـ مشهورة في استتابة بشر المريسي، حتى هرب منه لما أنكر أن يكون اللّه فوق عرشه قد ذكرها ابن أبي حاتم وغيره. وقال أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن أبي زمنين، الإمام المشهور من أئمة المالكية، في كتابه الذي صنفه في [أصول السنة] قال فيه: [باب الإيمان بالعرش] قال:ومن قول أهل السنة: إن اللّه ـ عز وجل ـ خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله: فسبحان من بَعُد وقَرُب بعلمه، فسمع النجوى. وذكر حديث أبي رَزِين العقيلي، قلت: يا رسول اللّه، أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ /قال: (في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء). قال محمد: العماء: السحاب الكثيف المطبق ـ فيما ذكره الخليل ـ وذكر آثارًا أخر، ثم قال [باب الإيمان بالكرسي] قال محمد بن عبد اللّه: ومن قول أهل السنة: إن الكرسي بين يدي العرش، وأنه موضع القدمين. ثم ذكر حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة، وفيه: (فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه، ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها). وذكر ما ذكره يحيى بن سالم ـ صاحب التفسير المشهور ـ: حدثني العلاء بن هلال، عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ قال: (إن الكرسي الذي وسع السموات والأرض لموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه). وذكر من حديث أسد بن موسي، ثنا حماد بن سلمة عن زر عن ابن مسعود قال: (ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، واللّه فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه). ثم قال في [باب الإيمان بالحجب] قال: ومن قول أهل السنة: إن اللّه بائن / من خلقه يحتجب عنهم بالحجب، فتعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، ثم قال في:[باب الإيمان بالنزول] قال: ومن قول أهل السنة: (إن اللّه ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدًا، وذكر الحديث من طريق مالك وغيره). إلى أن قال: وأخبرني وهب، عن ابن وضاح، عن الزهري، عن ابن عباد، قال: ومن أدركت من المشائخ: مالك وسفيان، وفُضَيْل بن عياض، وعيسى بن المبارك ووَكِيع، كانوا يقولون: إن النزول حق. قال ابن وَضَّاح: وسألت يوسف بن عَدِيّ عن النزول قال: نعم أومن به، ولا أحِدّ فيه حدًا، وسألت عنه ابن معين، فقال: نعم أُقرُّ به، ولا أحِدّ فيه حدًا . قال محمد: وهذا الحديث يبين أن اللّه ـ عز وجل ـ على العرش في السماء دون الأرض، وهو ـ أيضًا ـ بَيِّنٌ في كتاب اللّه، وفي غير حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: وذكر من طريق مالك قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين اللّه؟) / قالت: في السماء. قال: (من أنا؟) قالت: أنت رسول اللّه. قال: (فاعتقها). قال: والأحاديث مثل هذا كثيرة جدًا، فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض، لا إله إلا هو العلى العظيم. وقال قبل ذلك في [الإيمان بصفات اللّه تعالى وأسمائه] قال: واعلم بأن أهل العلم باللّه وبما جاءت به أنبياؤه ورسله، يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علمًا، والعجز عما لم يدع إليه إيمانًا، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه على لسان نبيه. وقد قال ـ وهو أصدق القائلين ـ: وقال تعالى: /فهو ـ تبارك وتعالى ـ نور السموات والأرض، كما أخبرعن نفسه، وله وجه، ونفس، وغير ذلك مما وصف به نفسه، ويسمع، ويرى، ويتكلم، هو الأول لا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية ولا شيء بعده، والظاهر العالى فوق كل شيء، والباطن، بطن علمه بخلقه فقال: وذكر [أحاديث الصفات] ثم قال: فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه، وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه، ولا تقدير: وكلام الأئمة في هذا الباب أطول وأكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره، وكذلك كلام الناقلين لمذهبهم، مثل ما ذكره أبو سليمان الخطابي في رسالته المشهورة في [الغنية عن الكلام وأهله] قال: [فأما ما سألت عنه من الصفات، وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته اللّه، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين اللّه ـ تعالى ـ بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه. /والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلومًا أن إثبات الباري ـ سبحانه ـ إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا: يد وسمع، وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها اللّه لنفسه، ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار، التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لأن اللّه ليس كمثله شيء، وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات]. هذا كله كلام الخطابي . وهكذا قاله أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له، أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك. وهذا الكلام الذي ذكره الخطابي قد نقل نحوًا منه من العلماء من لا يحصى عددهم، مثل أبي بكر الإسماعيلي، والإمام يحيى بن عمار السجزي، وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب [منازل السائرين]، و[ذم الكلام] وهو أشهر من أن يوصف، وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني، وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب، وغيرهم. /وقال أبو نعيم الأصبهاني، صاحب [الحلية] في عقيدة له، قال في أولها: [طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب والسنة، وإجماع الأمة] قال: [فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء اللّه يقولون بها، ويثبتونها، من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، وأن اللّه بائن من خلقه والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه، دون أرضه وخلقه]. وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه ـ [محجة الواثقين، ومدرجة الوامقين] تأليفه ـ: [وأجمعوا أن اللّه فوق سمواته، عالٍ على عرشه، مستوٍِ عليه، لا مستولٍِ عليه كما تقول الجهمية أنه بكل مكان، خلافًا لما نزل في كتابه: وكرسيه جسم، والأرضون السبع والسموات السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة، وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية، بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ـ تعالى وتقدس ـ يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفّا صفّا؛ كما قال تعالى:
|